الأحد، 25 مايو 2014

"المراسل" ابن "المراسل"

صاحب الصوت الجميل الذي يتسرب مثل جدول ماء عذب، لم تمنعه نشأته البسيطة من أن يضع لنفسه موطئ قدم في ميدان لا تفتح أبوابه إلا للمتميزين.



في "حوطة بني تميم" توفيّ والدا إبراهيم العيدان وهو ابن التاسعة، فعانى الفقر والوحدة؛ ومع إيذاء الصبية ليتيم لا أحد له يحميه اضطر إلى الرحيل إلى الرياض، وهناك سكن في حي (منفوحة) وعمل صبياً لدى أحد التجار ليعول نفسه ويبدأ حياته من الصفر. وبعد أعوام، تمكّن إبراهيم من الحصول على وظيفة "مراسل" بأجر زهيد في وزارة المياه والكهرباء، ينقل الأوراق والملفات للموظفين؛ ويلبي طلباتهم إلى أن تمكن من الزواج ورزق بخمسة أبناء، كان بينهم ابنه محمد الذي ولد عام 1982.

كانت نصيحة الأب الدائمة التي نشأ عليها محمد: "شد حيلك واعتمد على نفسك، ما ودي تكون مثل أبوك "مراسل" طالع نازل في خدمة الموظفين". وكان محمد يجيبه دائماً: "أنا أفتخر بك أب ومراسل في خدمة الناس". أما والدة محمد، فكان حلمها أن ترى ابنها إماماً وخطيباً لأحد جوامع الرياض، حيث كان يُخشعها صوته إذا قرأ القرآن، وتدمع عيناها كلما ألقى أمامها خطبةً في المنزل وكأنه خطيبٌ حقيقيّ.

بدأ محمد رحلة البحث عن عمل في المرحلة الثانوية، على التوازي مع الدراسة؛ ليساعد أسرته، فعمل سائقاً للعمال في المنطقة الصناعية بريالات زهيدة، ورغم مشقة "الكدادة"  نجح في الثانوية العامة والتحق بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام بالرياض، وتحسنت أحواله قليلاً بمكافأة الجامعة إلى جانب دخله اليومي من "الكدادة" على سيارته الهايلكس موديل 85، لكنه مستواه الدراسي انخفض وأوقفت الجامعة مكافآته، فبدأ مرحلة جديدة مع التحدي وتوظف "حارس أمن" في مبنى "هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات"ً، كان يعمل 8 ساعات يومياً من دون إجازة مقابل 1400 ريال. يقول محمد: "في هيئة الإتصالات شاهدت أول مسؤول في حياتي وجهاً لوجه، كان الوزير المهندس "محمد جميل ملا" الذي كان يشغل منصب محافظ الهيئة آنذاك، كنت أركض لأفتح له باب السيارة ومن بعدها باب المصعد، وكان دائماً يشكرني ويطلب مني ألا أفتح له الأبواب تواضعاً منه".

بعد أشهر ترك محمد الوظيفة لأنه لم يتمكن من التوفيق بين دراسته الجامعية وعدد ساعات العمل، والتحق بوظيفة في شركة دعاية وإعلان اكتشف بعد شهرين أنها كانت عملية نصب واحتيال خرج منها مفلساً، وتدهورت أوضاعه من جديد. وبعدها عمل موظف استقبال عند أحد ملاك الشقق المفروشة براتب شهري قدره 1200 ريال، كان يضطر خلالها هو وعمال المبنى لاستكشاف ثلاجات النزلاء بعد مغادرتهم؛ لعلهم يجدون شيئاً يأكلونه بدلاً من رميه في الزبالة، يقول محمد: "كنت مصدوماً حينما تلقيت أول "بقشيش" في حياتي، كان قدره 20 ريال من أحد النزلاء، وكنت متردداً للغاية حينما قبلت المبلغ، لكنني حينها لم أكن أمتلك في محفظتي ريالاً واحداً لأملىء سيارتي بالوقود، فأعتبرتها هديةً سقطت من السماء".

ومن وظيفة الاستقبال في الشقق المفروشة إلى أخرى مثلها في المستوصفات الطبية، ومن وظيفة هامشية لأخرى إلى أن توجه أخيراً للإعلام بعدما فاز في مسابقة الجامعة للخطابة والإلقاء، فتقدم لاختبارات قناة "المجد" الفضائية، وعمل فيها لفترة لكنه كان يطمح أن يلتحق بقناةٍ لها وزنها السياسي والاقتصادي ليكون بين كوكبة من المحترفين، فأتجه إلى قناة "العربية" وطلب مقابلة مديرها في السعودية "خالد المطرفي" مع قناعته أنه لن يُقبل، لكنه غادر مكتب القناة مبتهجاً لأنه قُـبل "مراسلاً" متعاونا وتحقق حلمه في الظهور على شاشة "العربية"، ليختم تقاريره بعبارة: "الرياض، محمد العيدان، العربية".

في حفل جائزة الملك عبدالله للترجمة، عُرض تقرير أمام الحضور كان يلقيه محمد العيدان، وكان من بين الحضور الوزير المهندس محمد جميل ملا، يقول محمد: "كدت أن أرتمي في أحضانه الوزير لأقول له بفخر، أنا موظف الأمن الذي كنت قبل سنوات أفتح لمعاليك باب السيارة".


محمد العيدان "المراسل" الذي يقوم على نقل القضايا وأحداث الناس عبر تقاريره الإعلاميه، هو ابن "المراسل" الذي كان يحمل ملفات المواطنين لينقلها من الأرشيف للموظفين، وهو صاحب الصوت الجميل الذي يتسرب بين التقارير الإعلامية مثل  جدول ماء عذب، لم تمنعه نشأته البسيطة من أن يضع لنفسه موطئ قدم في ميدان لا يفتح أبوابه إلا للمتميزين، وفي فضائيةٍ كبيرة يستلزم العمل فيها مواصفات لا تتيسر إلا لأصحاب المواهب الخاصة.


محمد العيدان، مراسل قناة العربية

من اليمين، محمد العيدان، سعود الخلف، خالد المطرفي، هاني الصفيان، وجلوساً وهيب الدخيل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.