الأحد، 23 فبراير 2014

البدوي الأمريكي " حرب ".. و 40 عام من الترحال







للإستماع للقصة كما بُثت عبر إذاعة mbc fm
تبث القصة كل يوم أحد أسبوعيا، في الأوقات التالية:
الساعة: 6:45 صباحا، 12:30 ظهرا، 5:30 عصرا


نقلاً عن صحيفة مكة

قبل نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1942 دوت صرخة المولود السادس في خيمة البدوي الرحال "عطا البلوي" ابن قبيلة (بليّ) المنتهي نسبها إلى قضاعة، تلك التي امتد ملكها ما بين الحجاز والعراق والشام، وسواحل خليج العقبة الشرقية حتى جبال الكراك. خاف (عطا) الموت على مولوده النحيل للغاية فسماه (حرب).

حمل الفقر عطا الذي لم يكن متعلماً، لكنه أشتهر بالذكاء والفراسة، على الرحيل بأبنائه الاثني عشر وزوجته من دياره في شمال الجزيرة العربية إلى أقدم مدينة في التاريخ (أريحا الفلسطينية) على الضفة الغربية لنهر الأردن، وهناك طلب ابنه الذي كان راعيا للغنم (حرب) البالغ حينها ثماني سنوات أن يلتحق كباقي الأطفال بالتعليم الذي كان في الخيام. وبعد أشهر أصبح الناس يقولون لعطا إن ابنه حرب يقرأ بشكل جيد ويمتلك قدرة عالية على التركيز أثناء الدروس؛ حتى إنه شبه بجهاز تسجيل للمواد شأنه شأن العباقرة، فمنحته خيمة التعليم أول جائزة في حياته، وكانت أربعة أقلام رصاص للكتابة.

باع عطا ما يملكه من مواعين وهاجر من أريحا إلى مدينة (الحلابات) في الأردن، بعدما أفقدته الحصبة التي انتشرت في ذلك الزمان ثلاثة من أبنائه، فدعا الله: (اللهم احفظ لي "حرب" إن كنت ستأخذ الباقين)؛ لأنه كان يرى في ابنه الراعي المتفوق تعليمياً خليفةً له في كل شيء.

استمر ابنه يُظهر براعة علمية في خيام التعليم بالحلابات، فنصحه معلم الخيمة أن ينقل ابنه للتعليم في خيام مدينة الزرقاء المجاورة؛ ليحظى بتعليم أفضل، فالتحق حرب بخيام التعليم في الزرقاء وأصبح لزاماً عليه وهو ابن العاشرة أن يقطع يومياً ثلاث ساعات من خيمة والده إلى خيمة التعليم في الزرقاء. ولأنه كان هزيلاً ويخشى على نفسه من الذئاب والسباع كان يقطع المسافة ركضاً ويتخفى كزواحف الصحراء من موقع لآخر إلى أن يصل دياره.

كان تفوق حرب دراسياً مضرب مثل لمعلمي الخيام، حتى إن كلمات أحدهم كانت نقطة تحول في حياة حرب حينما قال فيه أمام الطلاب: "لا تظنوا أن تحقيق الأهداف شيء مستحيل لأبناء الخيام، فربما يأتي اليوم الذي تشاهدون فيه هذا الفقير الهزيل ابن البدو الرحل، طبيباً). سكنت عبارة العلم قلب حرب، واستمر ينتقل من عام لآخر بتفوق إلى أن حصل على منحة تعليمية في الكلية العلمية الإسلامية التي تخرج فيها الملك حسين وأعظم مسؤولي الأردن، ومن شدة فقره قرر أن ينسحب منها لولا تدخل مدير الكلية الذي دفع عنه تكاليف الملابس التي سيرتديها أمام صفوة طلاب الأردن في السكن الداخلي للكلية.

يقول حرب: "أطلقت على عام 1962 (عام الفرحة) لأنني تخرجت في الكلية بعد ثلاث سنوات، وسمع سكان المملكة الأردنية الهاشمية اسمي عبر المذياع حينما حققت الترتيب الثالث على طلاب المملكة كافة". استحق حرب بعدها منحة الأمم المتحدة ليلتحق بكلية الطب في القاهرة، فيما كانت والدته ترجوه أن يرحل لمدينة تبوك السعودية وأن يلتحق بأبناء عمومته وأن يعمل في مجال التعليم مقابل 400 ريال سعودي في ذلك الوقت نتيجة الأحداث السياسية في مصر أثناء حكم عبدالناصر، لكن والده البدوي الرحال ذكرها بأن الله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.

رحل حرب إلى مصر وهناك بدأ يمارس عادته في التفوق على الآخرين، فأصبح الأول على دفعته، لمدة أربع سنوات، إلى أن اشتد الخناق على الطلاب الأردنيين الذين يدرسون في مصر لاعتقاد السلطات المصرية حينها أنهم ينتمون للإخوان المسلمين، فغادر حرب إلى بغداد وهناك التحق بكلية الطب بعدما توسطت له زوجة عميد كلية الطب، وكانت عميدة  كلية التربية، التقاها صدفة في حرم الجامعة حينما رفضه عميد التسجيل والقبول لنفس السبب.

استمر حرب يعاني مضايقات السياسة في بغداد مرة أخرى، فالغيرة من تفوق البدوي الغريب الذي حصل على منحة جامعة بغداد إلى جانب منحة الأمم المتحدة لتفوقه تعليمياً، وكانت تبلغ سبعة دنانير، وكان يساعد منها والديه في الأردن. كاد تفوق حرب يدفع الطلاب البعثيين إلى التجني عليه مراتٍ عدة أنه ضد نظام البعث وصدام حسين، وهو البعيد تماماً عن السياسة ومكرها، لكن أبواب السماء فتحت لدعاء والده كما فتحت من قبل لدعاء يعقوب لابنه يوسف، فتخرج من العشرة الأوائل على طلاب كلية الطب في بغداد.

عاد الرحال الصغير بعد سبع سنوات قضاها بين القاهرة وبغداد إلى أهله في الأردن، وهنالك تقدم إلى اختبارات الأطباء في الملحقية الأمريكية بعمان، وقُبل، فانتقل للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أمضى 15 عاماً بين أهم المستشفيات الأمريكية، ما مكنه من الحصول على البورد الأمريكي في طب الأطفال، ثم الزمالة في (الحساسية والمناعة)، حتى أصبح حديث الإعلام الأمريكي لتمكنه من اكتشاف سبب الحساسية التي أصابت طالبات الكشافة آنذاك، فعرف ابن الصحراء والخيام أن المشكلة كانت في نوعية الخيام المستخدمة وما تحتويه من مواد، فذاع صيته في مجال الحساسية والمناعة.

في الثمانينات الميلادية، أرادت إدارة مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض أن ينضم إلى كادرها الطبي أهم طبيب في تخصص الحساسية والمناعة، فراسلته الجهة المختصة باستقطاب الأطباء إلى السعودية وزار حينها وطنه الأم لأول مرة في حياته، وبعد شهر من التجربة قرر أن يأتي بزوجته وأطفاله لينشأوا بين مجتمع عربي مسلم، هو وطنهم الأم الذي لم يعرفه هو وأطفاله، وأصبح بعدها رئيس قسم أمراض الحساسية والمناعة.

في إحدى المرات، كان الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- يُعالج من الحساسية، فسمع عن طبيب أمريكي في المستشفى يطلق عليه "حرب الهرفي"، فتعجب وهو خبير في الأنساب والقبائل كيف يكون هنالك أمريكي من فخذ (الهرفي) التابعة لقبائل (بلي)!. فعلم أنه من البدو الرحل الذين نشأوا في الأردن وحمل جنسيتها ومن ثم الجنسية الأمريكية، فأصر أن يكون هذا النابغة فخراً للسعوديين ومنهم وأن يأخذ حقه في جنسية وطنه وأن يعامل كأبنائه.

الدكتور الشهير (حرب الهرفي) استقر في وطنه للأبد بعد أن أمضى حياته رحالاً بين البادية والدول، وافتتح عيادته الخاصة في مدينة الرياض التي سخرها لعلاج المرضى، وكثير من الحالات الإنسانية حتى اليوم؛ كونه يرى في مساعدة الآخرين له فضل يجب أن يوفيه مع الآخرين من البسطاء.

هناك 3 تعليقات:

  1. اسعد الله صباحك ومساك يا ابا يوسف
    مع اني في الثمانينات كنت اقرأ اخبارا عن د. حرب الهرفي ايام موجات بعض الأمراض التي كانت تمر علينا ، وكان يصرح مطمئنا وشارحا لبعضها ..
    إلا انني اليوم كأني اسمع به لأول مرة
    فما كنت اعرف انه عاش خارج المملكة ، ولا ان حربا كان يحارب ليحقق طموحاته الجامحة
    تحية لك على هذه المواضيع المفيدة من مفيد
    بارك الله فيك و وفقك

    ردحذف
  2. سلمت الانامل يا أستاذ مفيد
    كما جرت العادة دائماً استمتعنا بمقال جديد, وتعرفنا على مثال اخر للنجاح.

    ردحذف
  3. رحم الله والده،فقد وُفِق بدعوته و مساندته.

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.